خلق الله تعالى الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا، فلما جعله ربه سبحانه شيئا مذكورا تكبرت نفسه، وطغى قلبه، فعصى ربه سبحانه، وأفسد في أرضه، وظلم خلقه، ونازع الله تعالى في خصائصه، فأملى الله تعالى له، فلما أخذه لم يفلته، فأذاقه الذل بعد العز، والموت أو الحبس بعد الملك، ورأينا ذلك فيمن نزعوا من عروشهم في العامين السالفين.
وهذا يحتم على الإنسان عدم الإغترار بالدنيا مهما إزينت له، ودوام التعلق بالله تعالى، فإنه لا أمن إلا أمنه، ولا ضمان إلا ضمانه، ولا عز إلا عزه، فمن التجأ إليه التجأ إلى عظيم، ومن إحتمى به إحتمى بقدير، ومن آوى إليه أوى إلى ركن شديد.
إن التعلق بالله تعالى هو بلسم القلوب، وعز النفوس، وهو سبب النصر، ومعقد العز، وبوابة التمكين في الأرض.
إجتمعت أمم الكفر من سالف التاريخ إلى حاضره على الرسل وأتباعهم، فكان تعلق الرسل وأتباعهم بالله تعالى أمضى سلاح كسر أعداءهم.
= تأملوا في سيرة نوح عليه السلام وهو وحيد طريد، ما آمن معه إلا قليل، فوقف في وجوه الملأ من قومه، وأمرهم بالإجتماع عليه، والإنتقام منه، في صورة من التحدي والإعجاز تدعو للإكبار والإعجاب: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ} [يونس:71]
ما هو سلاحه في تحدي قومه، ولماذا لم ينتقموا منه؟! كان سلاحه: {فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ}، فحماه الله تعالى منهم، فلم يقابلوا تحديه بفعل ولا بقول، وهم أقوى وأكثر، ولا رادع لهم عن الإنتقام لأنفسهم، والثأر لكرامتهم، ويؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتلو علينا نبأ نوح، لنتعلم من سيرته التعلق بالله تعالى دون سواه.
= ووقف هود عليه السلام أمام قومه، داعيا إلى ربه، صادعا بدعوته، مسفها آلهة قومه، يتحداهم وحده وهم جماعة، وليسوا أي جماعة، إنهم قوم عاد أهل القوة والبطش والجبروت، {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ*مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} [هود:54،55]، إنه يطلب كيدهم، ويدعوهم إلى الإجتماع عليه، وما معه سلاح إلا تعلقه بالله تعالى حين قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
= وألقي الخليل عليه السلام في النار، وليس في قلبه إلا الله تعالى وكان يردد: حسبي الله، أي: الله كافيني، يا لها من لحظات تعلق بالله تعالى شغلته عن رجاء قومه أو إستعطافهم أو إستمهالهم، فليس في قلبه إلا الله تعالى، وقد روى أهل التفسير أن جبريل عليه السلام جاءه وهو يهوي في النار فقال: يا إبراهيم، ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.
= وطرُد موسى عليه السلام ومن معه من الأقلية المؤمنة حتى إستقبلوا البحر، والعدو خلفهم، فعظم الكرب على أتباع موسى، وعلموا أنهم حوصروا، وفي قبضة فرعون وقعوا، فقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، لكن موسى عليه السلام كان في شغل آخر، كان شغله التعلق بالله تعالى، {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].
وأيام إشتداد الأذى عليه وعلى بني إسرائيل كان يعلق قلوبهم بالله تعالى فيقول لهم {اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
= ويونس عليه السلام حين إجتمعت عليه ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، ما تعلق إلا بالله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
= ويعقوب عليه السلام حين فقد يوسف لم يتعلق في طلبه بغير الله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف:86].
= ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين طوق المشركون الغار، وقال أبو بكر رضي الله عنه: «لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، قال عليه الصلاة والسلام: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما».
وفي اليرموك كتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنهما، يستنصره على الكفار، ويخبره أنه قد نزل بهم جموع لا طاقة لهم بها، فلما وصل كتابه بكى الناس، وكان من أشدهم عبد الرحمن بن عوف، وأشار على عمر أن يخرج بالناس، فرأى عمر أن ذلك لا يمكن، وكتب إلى أبي عبيدة: مهما ينزل بامرئ مسلم من شدة، فينزلها بالله يجعل الله له فرجا ومخرجا، فإذا جاءك كتابي هذا فإستعن بالله وقاتلهم، علمهم الفاروق رضي الله عنه، التعلق بالله تعالى لا التعلق بعمر ولا بجيشه، فنصرهم الله تعالى نصرا عزيزا.
أيها الصائمون القائمون، «من تعلق شيئا وُكِل إليه»، تلكم قاعدة نبوية نطق بها من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم ورأيناها واقعا فيما مر بنا من أحداث عظام، فأمة العرب ركنت في قضاياها المصيرية إلى المنظمات الدولية، وركنت في حمايتها إلى الدول العظمى، وتعلقت بها أكثر من تعلقها بالله تعالى فما زادتها إلا ذلا وظلما، وقهرا ورهقا، فضاعت فلسطين في أروقة الظالمين، وسلمت العراق للصفويين، والآن يذبح الباطنية إخواننا السوريين، ويبيد البوذيون إخواننا البورميين، وأمة العرب ومن ورائها المسلمون لم يستطيعوا فعل شيء، لأن تعلقهم بغير الله تعالى كان أكثر من تعلقهم به سبحانه.
ضربت عليهم الذلة رغم كثرتهم، وأهينوا بالفقر رغم ثرواتهم، وأصيبوا بالتفرق مع أنهم في الأصل أمة واحدة، تعددت الأسباب، وإختلفت الرؤى، لكن السبب الجامع لكل أسباب مصائب الأمة، ومذابحها، وهوانها على أعدائها: هو التعلق بغير الله تعالى، فوكلوا إلى من تعلقوا به من البشر، فخذلوهم وظلموهم وغدروا بهم، والعروش التي تساقطت كان أربابها متعلقين بالخلق من دون الله تعالى فما أغنوا عنهم نقيرا ولا قطميرا، ولم يحموهم من الذل والأسر والقتل، ولم يمنعوا عروشهم من السقوط.
إي وربنا، لم ينفعهم تعلقهم بعسكرهم وقواتهم وأعوانهم، كما لم ينفعهم تعلقهم بالقوى المستكبرة، وخضوعهم لها لما أراد الله تعالى زوالهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه، خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرا لهم، مدبرا لهم، متصرفا بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: أعظم الناس خذلانا من تعلق بغير الله، فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات.
وفي بلاد الشام إجتمع على أهل السنة فيها دولة بجندها، وجيشها، وعتادها يقودها النصيرية لذبحهم، وأمدهم باطنية لبنان والعراق وإيران بالجند والسلاح، ومن خلفهم ملاحدة الصين وروسيا، وترك العالم السوريين يواجهون هذا كله وحدهم، فلما رأوا خذلان الناس لهم، تعلقت قلوبهم بالله وحده، وظهر ذلك جليا في هتافاتهم وشعاراتهم، فأمدهم الله تعالى بقوته، وثبت قلوبهم بقدرته، وأدال لهم على أعدائهم، وأمال الكفة لهم، وصاروا يثخنون في العدو، ويقتربون من النصر، وتلك آية بينة رأيناها بأنفسنا، تدل على أن التعلق بالخلق يورث الذل والخذلان والهزيمة، وأن التعلق بالله تعالى يكسب العز والنصر والقوة.
فعلقوا بالله العظيم قلوبكم، وأخلوها من الخلق مهما كانوا، علقوا به سبحانه قلوبكم في هذا الزمن العصيب الذي تتخطفنا فيه الفتن، وتحيط بنا المحن، ويتكالب علينا الأعداء، علقوا بالله تعالى قلوبكم في رد أعدائكم، وعلقوا به قلوبكم في حفظ أوطانكم، وعلقوا به قلوبكم في أمنكم وإستقراركم، وعلقوا به قلوبكم في أرزاقكم، وعلقوا به قلوبكم فيما تؤملون في مستقبلكم وما تخافون، ولا تتعلقوا بمخلوق مهما علت منزلته، وبلغت قوته، وظهرت عزته، فإن القوة لله جميعا، وإن العزة لله جميعا {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].
الكاتب: الشيخ إبراهيم الحقيل.
المصدر: موقع دعوة الأنبياء.